فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله تعالى: {فَقَالُواْ} تفسير للمتنازع فيه. وقوله تعالى: {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} جملة معترضة. إما من الله ردا على الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين فيهم على عهده صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب، أو هي من كلام المتنازعين في عهدهم. كأنهم تذاكروا أمرهم العجيب وتحاوروا في أحوالهم ومدة لبثهم. فلما لم يهتدوا أحالوا حقيقة نبيهم إليه تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} أي: من المتنازعين، وهم أرباب الغلبة ونفوذ الكلمة: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} أي: نصلي فيه، تبركا بهم وبمكانهم.
تنبيه:
قال ابن كثير: حكي في القائلين ذلك قولان:
أحدهما: أنهم المسلمون منهم.
والثاني: أنهم المشركون. والظاهر أنهم هم أصحاب النفوذ. ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر. لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد» يحذّر ما فعلوا. انتهى.
وعجيب من تردده في كونهم غير محمودين، مع إيراده الحديث الصحيح بعده، المسجل بلعن فاعل ذلك. وهو أعظم ما عنون به على الغضب الإلهي والمقت الرباني. والسبب في ذلك أن البناء على قبر النبي والولي مدعاة للإقبال عليه والتضرع إليه. ففيه فتح لباب الشرك وتوسل إليه بأقرب وسيلة. وهل أصل عبادة الأصنام إلا ذلك؟ كما قال ابن عباس في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23]، قال: هؤلاء كانوا قوما صالحين في قومهم. فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم. فلما طال فيهم الأمد عبدوهم. فهؤلاء لما قصدوا الانتفاع بالموتى، قادهم ذلك إلى عبادة الأصنام. قال الإمام محمد بن عبد الهادي عليه الرحمة، في كتابه الصارم المنكى بعد إيراده ما تقدم: يوضحه أن الذين تكلموا في زيارة الموتى من أهل الشرك، صرحوا بأن القصد هو انتفاع الزائر بالمزور. وقالوا: من تمام الزيارة أن يعلق همته وروحه بالميت وقبره. فإذا فاض على روح الميت من العلويات الأنوار، فاض منها على روح الزائر بواسطة ذلك التعلق والتوجه إلى الميت. كما ينعكس النور على الجسم الشفاف، بواسطة مقابلته.
وهذا المعنى بعينه، ذكره عَبَّاد الأصنام في زيارة القبور. وتلقاه عنهم من تلقاه ممن لم يحط علما بالشرك وأسبابه ووسائله. ومن هاهنا يظهر سر مقصود النبي صلى الله عليه وسلم بنهيه عن تعظيم القبور واتخاذ المساجد عليها والسرج. ولعنه فاعل ذلك وإخباره بشدة غضب الله عليه. ونهيه عن الصلاة إليها، ونهيه عن اتخاذ قبره عيدا. وسؤاله ربه تعالى أن لا يجعل قبره وثنا يعبد. فهذا نهيه عن تعظيم القبور. وذلك تعليمه وإرشادة للزائر أن يقصد نفع الميت والدعاء له والإحسان إليه، لا الدعاء به ولا الدعاء عنده.
ثم قال عليه الرحمة: ومن ظن أن ذلك تعظيم لهم فهو غالط جاهل. فإن تعظيمهم إنما هو بطاعتهم واتباع أمرهم ومحبتهم وإجلالهم. فمن عظمهم بما هو عاص لهم به، لم يكن ذلك تعظيما ً. بل هو ضد التعظيم. فإنه متضمن مخالفتهم ومعصيتهم. فلو سجد العبد لهم أو دعاهم من دون الله أو سبحهم أو طاف بقبورهم واتخذ عليها المساجد والسرج، وأثبت لهم خصائص الربوبية، ونزههم عن لوازم العبودية، وادعى أن ذلك تعظيم لهم كان من أجهل الناس وأضلهم. وهو من جنس تعظيم النصارى للمسيح حتى أخرجوه من العبودية. وكل من عظّم مخلوقًا بما يكرهه ذلك المعظَّم ويبغضه، ويمقت فاعله، فلم يعظمه في الحقيقة، بل عامله بضد تعظيمه. فتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم أن تطاع أوامره وتصدق أخباره ولا يقدم على ما جاء به غيره. فالتعظيم نوعان: أحدهما ما يحبه المعظَّم ويرضاه ويأمر به ويثني على فاعله، فهذا هو التعظيم في الحقيقة. والثاني ما يكرهه ويبغضه ويذم فاعله، فهذا ليس بتعظيم بل هو غلوّ مناف للتعظيم. ولهذا لم يكن الرافضة معظمين لعلي، بدعواهم الإلهية والنبوة أو العصمة ونحو ذلك. ولم يكن النصارى معظمين للمسيح. بدعواهم فيه ما ادعوا. والنبي صلى الله عليه وسلم. قد أنكر على من عظمه بما لم يشرعه. فأنكر على معاذ سجوده له وهو محض التعظيم. وفي المسند بإسناد صحيح على شرط مسلم عن أنس بن مالك أن رجلا قال: يا محمد! يا سيدنا! وابن سيدنا! وخيرنا! وابن خيرنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بتقواكم، ولا يستهوينكم الشيطان. أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، ما أحب أن تعرفوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عزّ وجلّ». وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم. فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله» وكان يكره من أصحابه أن يقوموا له إذا رأوه. ونهاهم أن يصلوا خلفه قيامًا وهو مريض.
وقال: «إن كدتم آنفًا لتفعلون فعل فارس والروم. يقومون على ملوكهم» وكل هذا من التعظيم الذي يبغضه ويكرهه. ولقد غلا بعض الناس في تعظيم القبور حتى قال: إن البلاء يندفع عن أهل البلد أو الإقليم، بمن هو مدفون عندهم من الأنبياء والصالحين. وهو غلوّ مخالف لدين المسلمين، مخالف للكتاب والسنة والإجماع. وللبحث تتمة مهمة فانظره. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}.
عطف لجزء من القصة الذي فيه عبرة لأهل الكهف بأنفسهم ليعلموا من أكرمهم الله به من حفظهم عن أن تنالهم أيدي أعدائهم بإهانة، ومن إعلامهم علم اليقين ببعض كيفية البعث، فإن علمه عظيم وقد قال إبراهيم {رب أرني كيف تحيي الموتى} [البقرة: 260].
والإشارة بقوله: {وكذلك} إلى المذكور من إنامتهم وكيفيتها، أي كما أنمناهم قرونًا بعثناهم.
ووجه الشبه: أن في الإفاقة آية على عظيم قدرة الله تعالى مثل آية الإنامة.
ويجوز أن يكون تشبيه البعث المذكور بنفسه للمبالغة في التعجيب كما تقدم في قوله: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} [البقرة: 143].
وتقدم الكلام على معنى البعث في الآية المتقدمة، وفي حسن موقع لفظ البعث في هذه القصة، وفي التعليل من قوله: {ليتساءلوا} عند قوله: {ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى} [الكهف: 12].
والمعنى: بعثناهم فتساءلوا بينهم.
وجملة {قال قائل منهم} بيان لجملة {ليتساءلوا}.
وسميت هذه المحاورة تساؤلًا لأنها تحاور عن تطلب كل رأيَ الآخر للوصول إلى تحقيق المدة.
والذين قالوا: {لبثنا يومًا أو بعض} هم مَن عدا الذي قال: {كم لبثتم}.
وأسند الجواب إلى ضمير جماعتهم: إما لأنهم تواطؤوا عليه، وإما على إرادة التوزيع، أي منهم من قال: لبثنا يومًا، ومنهم قال: لبثنا بعض يوم.
وعلى هذا يجوز أن تكون {أو} للتقسيم في القول بدليل قوله بعد {قالوا ربكم أعلم بما لبثتم}، أي لما اختلفوا رجعوا فعدلوا عن القول بالظن إلى تفويض العلم إلى الله تعالى، وذلك من كمال إيمانهم.
فالقائلون {ربكم أعلم بما لبثتم} يجوز أن يكون جميعهم وهو الظاهر.
ويجوز أن يكون قول بعضهم فأسند إليهم لأنهم رأوه صوابًا.
وتفريع قولهم: {فابعثوا أحدكم} على قولهم: {ربكم أعلم بما لبثتم} لأنه في معنى فدَعُوا الخوض في مدة اللبث فلا يعلمها إلا الله وخذوا في شيء آخر مما يهمكم، وهو قريب من الأسلوب الحكيم.
وهو تلقي السائل بغير ما يتطلب تنبيهًا على أن غيره أولى بحاله، ولولا قولهم: {ربكم أعلم بما لبثتم} لكان قولهم: {فابعثوا أحدكم} عين الأسلوب الحكيم.
والوَرِق بفتح الواو وكسر الراءِ: الفضة.
وكذلك قرأه الجمهور.
ويقال وَرْق بفتح الواو وسكون الراء وبذلك قرأ أبوعمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم ورَوح عن يعقوب وخلف.
والمراد بالورق هنا القطعة المسكوكة من الفضة، وهي الدراهم قيل: كانت من دراهم دقيوس سلطان الروم.
والإشارة بهذه إلى دَراهم معينة عندهم، والمدينة هي أبْسُسْ بالباء الموحدة.
وقد قدمنا ذكرها في صدر القصة.
و{أيها} ما صدقه أي مكان من المدينة، لأن المدينة كل له أجزاء كثيرة منها دكاكين الباعة، أي فلينظر أي مكان منها هو أزكى طعامًا، أي أزكى طعامُه من طعام غيره.
وانتصب {طعامًا} على التمييز لنسبة {أزكى} إلى أي.
والأزكى: الأطْيب والأحسن، لأن الزّكْوَ الزيادة في الخير والنفع.
والرزق: القوت.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {قال لا يأتيكما طعام ترزقانه} في سورة يوسف (37)، والفاء لتفريع أمرهم مَن يبعثونه بأن يأتي بطعام زكي وبأن يتلطف.
وصيغة الأمر في قوله: {فليأتكم} و{ليتلطف} أمر لأحدٍ غير معين سيوكَلونه، أي أن تبعثوه يأتكم برزق، ويجوز أن يكون المأمور معينًا بينهم وإنما الإجمال في حكاية كلامهم لا في الكلام المحكي.
وعلى الوجهين فهم مأمورون بأن يوصوه بذلك. قيل التاء من كلمة {وليتلطف} هي نصف حروف القرآن عَدًّا.
وهنالك قول اقتصر عليه ابن عطية هو أن النون من قوله تعالى: {لقد جئت شيئًا نكرًا} [الكهف: 74] هي نصف حروف القرآن. والإشعار: الإعلام، وهو إفعال من شَعَر من باب نصر وكَرُم شُعورًا، أي علم.
فالهمزة للتعدية مثل همزة {أعلم} من علم الذي هو عِلم العرفان يتعدى إلى واحد.
وقوله: {بكم} متعلق ب {يُشعِرَنَّ}. فمدخول الباء هو المشعور، أي المعلوم.
والمعلوم إنما يكون معنى من المعاني متعلق الضمير المجرور بفعل {يشعرن} من قبيل تعليق الحكم بالذات، والمراد بعض أحوالها. والتقدير: ولا يخبرن بوجودكم أحدًا.
فهنا مضاف محذوف دلت عليه دلالة الاقتضاء فيشمل جميع أحوالهم من عددهم ومكانهم وغير ذلك.
والنون لتوكيد النهي تحذيرًا من عواقبه المضمنة في جملة {إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم} الواقعة تعليلًا للنهي، وبيانًا لوجه توكيد النهي بالنون، فهي واقعة موقع العلة والبيان، وكلاهما يقتضي فصلها عما قبلها.
وجملة {إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم} علة للأمر بالتلطف والنهي عن إشعار أحد بهم.
وضمير {إنهم} عائد إلى ما أفاده العموم في قوله: {ولا يشعرن بكم أحدًا}، فصار {أحدًا} في معنى جميع الناس على حكم النكرة في سياق شبه النهي.
والظهور أصله: البروز دون ساتر.
ويطلق على الظفر بالشيء، وعلى الغلبة على الغير، وهو المراد هنا.
قال تعالى: {أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء} [النور: 31] وقال: {وأظهره الله عليه} [التحريم: 3] وقال: {تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان} [البقرة: 85].
والرجم: القتل برمي الحجارة على المرجوم حتى يموت، وهو قتل إذلال وإهانة وتعذيب.
وجملة {يرجموكم} جواب شرط {إن يظهروا عليكم}.
ومجموع جملتي الشرط وجوابه دليل على خبر {إن} المحذوف لدلالة الشرط وجوابه عليه.
ومعنى {يعيدوكم في ملتهم} يرجعوكم إلى الملة التي هي من خصائصهم، أي لا يخلو أمرهم عن أحد الأمرين إما إرجاعكم إلى دينهم أو قتلكم. والملة: الدين.
وقد تقدم في سورة يوسف (37) عند قوله: {إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله} وأكد التحذير من الإرجاع إلى ملتهم بأنها يترتب عليها انتفاء فلاحهم في المستقبل، لما دلت عليه حرف {إذًا} من الجزائية.
و{أبدًا} ظرف للمستقبل كله. وهو تأكيد لما دل عليه النفي ب {لن} من التأبيد أو ما يقاربه.
{وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ليعلموا أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَأَنَّ الساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا}.
انتقل إلى جزء القصة الذي هو موضع عبرَةِ أهل زمانهم بحالهم وانتفاعهم باطمئنان قلوبهم لوقوع البعث يوم القيامة بطرِيقة التقريب بالمشاهدة وتأييد الدين بما ظهر من كرامة أنصاره.
وقد كان القوم الذين عثروا عليهم مؤمنين مثلهم، فكانت آيتهم آية تثبيت وتقوية إيمان.
فالكلام عطف على قوله: {وكذلك بعثناهم} [الكهف: 19] الآية.
والقول في التشبيه والإشارة في {وكذلك} نظيرُ القول في الذي قبله آنفًا.
والعثور على الشيء: الاطلاع عليه والظفَر به بعد الطلب.
وقد كان الحديث عن أهل الكهف في تلك المدينة يتناقله أهلها فيسر الله لأهل المدينة العثور عليهم للحكمة التي في قوله: {ليعلموا أن وعد الله حق} الآية.
ومفعول {أعثرنا} محذوف دل عليه عموم {ولا يشعرن بكم أحدًا} [الكهف: 20].
تقديره: أعثرنا أهل المدينة عليهم.
وضمير {ليعلموا} عائد إلى المفعول المحذوف المقدر لأن المقدر كالمذكور.
ووعد الله هو إحياء الموتى للبعث.
وأما علمهم بأن الساعة لا ريب فيها، أي ساعة الحشر، فهو إن صار علمهم بذلك عن مشاهدة تزول بها خواطر الخفاء التي تعتري المؤمن في اعتقاده حين لا يتصور كيفية العقائد السمعية وما هو بريب في العلم ولكنه في الكيفية، وهو الوارد فيه أنه لا يخطر إلا لصديق ولا يدوم إلا عند زنديق.